الخميس، 1 فبراير 2018

الكاميرا الخفية ... قصة قصيرة



كان ينتظر الحافلة في مجمع السفريات المزدحم بالناس والمحلات والبضائع والسيارات والتلوث والف وضى والمشاعر المتضاربة. سرح فكره بعيداً يحلم بشراء سيارة متواضعة تعفيه من مشقة الانتظار الطويل صباحاً ومساءً، وترحمه من وعثاء الحافلات واكتظاظها بالركاب، وبذاءة ما تصدح به من أغنيات، وقذارة بعض الركاب الذين يتباهون بالشتائم والسباب والنكات السافلة والقهقهات الماجنة، لا يأبهون بالنساء والأطفال وكبار السن، ويكاد لا تخلو منهم حافلة في أي يوم من الأيام.
دَوَّتْ صفعة قوية على خده الأيمن، أيقظته من أحلامه وسرحانه، التفت ليرد الصفعة صفعتين لولا أن رأى رجلاً ضخماً، ومع إلتمام الناس وتجمعهم، صرخ واحتج، فاعتذر الرجل فقد ظنه أحد أصدقائه. شجعه اعتذار الرجل أن يواصل صراخه واستنكاره لهذا التصرف، وأنه يجب أن يتأكد قبل أن يكيل له الصفعة المهينة. كرر الرجل اعتذاره، ورجاه أن يسامحه، وهم بتقبيل رأسه، غير أنه لم يقبل، وواصل الصراخ ورفع يده ليرد الصفعة، فأمسك الرجل يده برفق، وقال له ضاحكاً: معك الكاميرا الخفية. انظر هناك. وأشار إلى رجل يصور المشهد.
خمد اندفاعه، وصمت صراخه، وقال: لقد أوجعتني، ولكن لا بأس فقد سامحتك. متى سأرى نفسي على شاشة التلفزيون وعلى أي محطة؟
أخبره الرجل باسم المحطة والموعد، فابتسم، وركب الحافلة التي توقفت، وهو يترقب موعد بث حلقة الكاميرا الخفية بلهفة وسعادة، فأخيراً سيظهر على شاشة التلفزيون، ويراه عشرات الألوف إن لم يكن الملايين.
ذات مساء، تعرض للسرقة، وألقى به السارق في حاوية نفايات، لم يهتم كثيراً، فمن المؤكد أنه مشهد للكاميرا الخفية. انتظر أن يعود السارق ويعتذر ويعيد إليه محفظته، وأخيراً وجد لهم عذراً بانشغالهم بتصوير غيره، وسامحهم بالمحفظة فلا يوجد بها سوى فواتير الكهرباء والماء. وعاد إلى البيت مسرعاً يترقب بث الحلقة الجديدة من الكاميرا الخفية.
توالت عليه مواقف الإيذاء والإساءة والإهانة التي تسامح معها ظناً منه أنها لغايات الكاميرا الخفية، وكان في كل مرة يعود مسرعاً إلى البيت حتى لا تفوته الحلقة الجديدة.
فُصل من عمله، فلم يأبه كثيراً، لا بدَّ أن طاقم الكاميرا الخفية خلف هذا الأمر، وكلها يوم أو يومين ويتصلون به ليعود إلى عمله معززاً مكرماً.
رفعت الحكومة أسعار معظم المواد التموينية والكهرباء والماء والمحروقات، فلم يأخذ الأمر على محمل الجد، فربما هي حلقة جديدة من حلقات الكاميرا الخفية.
طرده مالك الشقة، ورمى أغراضه في الشارع؛ لأنه لم يدفع الإيجار منذ شهور. جلس بالقرب من أغراضه منتظراً ريثما ينتهي تصوير حلقة الكاميرا الخفية، ليعود إلى شقته مع اعتذار من مالك الشقة وطاقم التصوير.
بعد فحص سريري دقيق، اقتادوه مقنعاً إلى مستشفى المجانين، فلم يعترض أو يقاوم، ولكنه رجاهم بإلحاح أن يأتوه بجهاز تلفزيون؛ ليشاهد الحلقة الجديدة من الكاميرا الخفية.

نشرت في صحيفة الدستور بتاريخ 29-12-2017




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق