إلى وقت قريب كانت الرواية تُعرَّف بأنها قصة طويلة،
والقصة القصيرة رواية قصيرة، بل وما زالت الرواية في كثير من المراجع والكتب تندرج
تحت مسمى القصة من حيث التصنيف، للتفريق بينها وبين الشعر والمسرحية وغيرها من
فنون الأدب.
غير أن التطور المتسارع في كلا الفنين (القصة والرواية)،
والتمرد على قواعد كتابتهما وقوالبهما الأكاديمية، والنزوع إلى التجريب عند كثير
ممن يكتبهما، أثار جملة من التساؤلات عن العلاقة بين القصة القصيرة والرواية، وهل
بقيت أي مصداقية للرأي القائل بأن القصة "القصيرة" رواية قصيرة،
والرواية قصة طويلة؟ أم هما فنان مختلفان لكل منهما شخصيته واستقلاليته؟
حول هذه الإشكالية، تحدث مجموعة من مبدعي القصة والرواية
والنقاد:
الرواية والقصة القصيرة يأتلفان ويختلفان، ولكل
منهما نكهتها الخاصة التي تميزها عن الأخرى.
إبراهيم
درغوثي / قاص وروائي من تونس
تشترك القصة القصيرة والرواية في فن السرد
عامة، أي إنهما وسيلتان إبداعيتان يستطيع الكاتب من خلالهما تبليغ رسالة سردية تُحاكي
الواقع وتعبر عنه، ولئن اتفق هذان الفنان في أُسّ الكتابة، فإنهما يختلفان في شكل
الإبلاغ وطريقته، فلا القصة القصيرة رواية قصيرة، ولا الرواية قصة طويلة؛ لأن
القصة هي فن الإيجاز البليغ الذي يترك للقارئ فرصة تخييل النهايات الممكنة
والمستحيلة، بينما الرواية هي القول على القول حد الإشباع والتخمة.
القصة القصيرة باب يفتحه السارد، وهو
يختار من الكلمات ما يرصّف به جدار القول القصير بتأنّ وتؤدة، فلا مكان لكلمة خارج
إطار البناء السردي، ولا لجملة تشرّع للاستطراد في الزمان والمكان ولشخصيات لا محل
لها في الإعراب، بينما الرواية هي فن التوسّع في البناء حتى الآفاق البعيدة
لممكنات اللغة السردية.
بهذا الشكل لا يمكن للقصة القصيرة أن تكون
رواية قصيرة؛ لأن للرواية القصيرة شروطها الإبداعية الخاصة، وتقنيات كتابتها
ومجازاتها القولية وانزياحاتها البلاغية التي تشترك في جوانب منها مع القصة
القصيرة، ولكنها تختلف عنها في جوانب أخرى.
كما لا يمكن للرواية أن تكون قصة طويلة؛
لأنها ستكون قصة مترهّلة بما لا تحتمل من إضافات يمكن الاستغناء عنها عند القيام
بعمليات التشذيب والحذف.
إن للرواية شروطها الفنية الخاصة بها، كما
للقصة القصيرة شروطها، يأتلفان فيها ويختلفان، لتظل لكل واحدة منهما نكهتها الخاصة
التي تميزها عن الأخرى.
القصة القصيرة والرواية ابنان شرعيان
للسرد؛ أحدهما يميل إلى القبض، بينما الآخر يميل إلى البسط
محسن يونس / قاص
وروائي وكاتب أطفال من مصر
أكتب القصة القصيرة ، وكذا
الرواية للكبار والصغار ، ولا أجد نفسى منحازًا لأى من الوجهتين، المسألة عندى هى
الرضوخ لرؤية ما تظل على إلحاحها المضجر، وصراخها المتواصل، حتى تتحقق كتابة،
فتراها إما قصة أو نصًا روائيًا. إذن يبدو أن ما ذكرته هنا توًا، يقول أنه لا فرق
بين القصة والرواية، على اعتبار أن النبع يفيض بمياه واحدة تتفرع إلى مسارب مختلفة،
هذه إجابة تبدو –أيضًا– وكأنها إجابة معلبة، أو سابقة التجهيز، وسطحية إلى حد ما،
كنت أريد أن أقول إن العمل الروائى لا يختلف عن القصة القصيرة، فهما ابنان شرعيان
للسرد. يمكننا اختصار المسألة فى أن أحدهما يميل إلى القبض، بينما الآخر يميل إلى
البسط، قدرة الأول –القصة القصيرة- على الاختصار، والتحديد، وقص لسان الفضفضة، إلى
جانب قدرته على طرح رؤيته من خلال التركيز، بعكس الثانى –الرواية– فقدرته تأتى من
قيمة الفضفضة غير المجانية، المحكمة بمشهدية قادرة على تعدد أطياف المجاز، والخيال
المرتبط –مع ذلك– بالوحدة والتنوع داخل المتن.
ما وصلت إليه توًا يقول
بأن الابنين الشرعيين للسرد، ليسا توأمين، يتشابهان فى الملامح والمشاعر
والانفعالات، بل هما مختلفان، وينبغى عليهما أن يكونا مختلفين، لكل منهما شخصيته
التى تقوم عليها جادة الاختلاف، ومشروعية كل منهما على التجريب فى المستحيل ذاته.
إذا كان محور النص السردي هو "الحدث" فإنه يُصنف كقصة. وأما
إذا كان محور النص السردي هو "الشخصية" فإنه يُصنف حينئذ كرواية
وجدي الأهدل/
قاص وروائي من اليمن
إذا كان محور النص السردي هو "الحدث"
فإنه يُصنف كقصة. وأما إذا كان محور النص السردي هو "الشخصية" فإنه
يُصنف حينئذ كرواية. ليس عدد الكلمات أو الورق مهمًا، المهم هو إلى أين يمضي
السرد، هل باتجاه بلورة الحدث أم بلورة الشخصيات. ولدينا نموذج أدبي رفيع المستوى
يمكن الاستشهاد به، ألا وهو "في خطو السرطان" للروائي الألماني (غونتر
غراس). ورغم أن هذا العمل تربو صفحاته على المئتي صفحة، ويحفل بعدد كبير نسبيًا من
الشخصيات، ألا أن (غونتر غراس) كتب على غلافه "قصة" ولم يُصنفه كرواية..
وحينما نقرأ "في خطو السرطان" سوف نفهم السبب، ذلك أن فكرة الكتاب
تتمحور حول السفينة الألمانية "غوستلوف" التي غرقت في الحرب العالمية
الثانية، وحول كل من له علاقة بها من قريب أو بعيد.. وكما نلاحظ فإن اهتمامه هنا
لم يكن منصبًا على الشخصيات وعوالمها الداخلية، وإنما على تتبع مسار حدث معين، منذ
مصرع فيلهلم غوستلوف النازي المتعصب الذي سميت السفينة باسمه، وحتى غرق السفينة
"غوستلوف" بثلاثة طوربيدات من غواصة سوفيياتية.
تتميز الرواية أيضًا بعنصر "التفاصيل".
في العمل القصصي "التفاصيل" غير مرغوب بها، وخلو القصة من التفاصيل دليل
جودتها. في الرواية هناك مجال لوصف "الشخصيات" وأما في القصة فإن عنصر
"الوصف" ينبغي أن يكون موجزًا جدًا أو يُدمج مع "الحدث".
الرواية هي الأخت الكبرى للقصة القصيرة، التي لديها عمق وتجارب في
الحياة أكثر .
عدنان فرزات / قاص وروائي من سوريا
كلاهما: القصة والرواية ينضويان في النهاية تحت غطاء
السرد، أي أنهما من جنس أدبي واحد، والذي حدث في السنوات الأخيرة، هو اختلاط السرد
القصصي -تحديدًا- بالخاطرة، فكثيرون يكتبون خاطرة معتقدين أنها قصة قصيرة. وهنا
المشكلة أكبر من أي تقارب بين القصة والرواية، ولكن في المفهوم الفني، لا يمكن
اعتبار القصة رواية قصيرة أو "مكثفة"، ولا يمكن اعتبار الرواية قصة
طويلة، لأن لكل واحدة منهما غلافها الفني الذي يؤطرها، وإن كنتُ ضد تحديد عدد
الكلمات لكل منهما حتى يستحق اسمه.
الرواية أحيانًا يمكن اختزالها بعدد كلمات أقل مما
يشترطه الصارمون في تحديد جنس الرواية وفق عدد الكلمات. لذلك هؤلاء فقط هم الذين
يعيدون الرواية القصيرة إلى خانة القصة الطويلة.
كذلك بالنسبة للقصة القصيرة، فهي ليست رواية مكثفة،
إنما هي حكاية تبدأ وتنتهي بحدث واحد على الأغلب، وبشخصية واحدة أو عدد قليل جدًا
من الشخصيات.
من الظلم أن نبدل التسميات أو "نكيفّها"
بين فنين مختلفين لا يجمع بينهما سوى رداء اسمه السرد، وبإمكانك أن تقول: سردًا
طويلًا أو سردًا قصيرًا، ولكن ليس بوسعك أن تطلق مصطلحًا آخر من شأنه أن يكون مجحفًا
بأحد الفنين.
الرواية هي الأخت الكبرى للقصة القصيرة..إن صح
التعبير، الأخت الكبرى لديها عمق وتجارب في الحياة أكثر، ولكن هذا لا يقلل من شأن
حكاية الأخت الأصغر التي تحكي بإيجاز ما حصل لها أمس أو اليوم وليس على مدى سنوات
مثل الأخت الكبرى.
القارىء يبحث عما يثير
المتعة الفنية لديه، بصرف النظر عن التسميات والتصنيفات
محمود الريماوي/قاص وروائي
من الأردن
هناك
بطبيعة الحال عناصر مشتركة بين القصة القصيرة والرواية،
فهما ينتميان معًا لحقل السرد، وليس هناك بين ألوان التعبير ما هو أقرب من القصة إلى
الرواية أو الرواية إلى القصة. كتب كثير
من القاصين روايات، وكثرة من الروائيين كتبوا قصصًا( ماركيز، كافكا، همنغوي، نجيب
محفوظ، يوسف إدريس ..) لكن هؤلاء وأؤلئك لم يكتبوا مسرحًا، مع أن النصوص المسرحية
تنتمي أيضًا إلى عالم السرد.
تضم
الرواية حكايات وقصصًا قصيرة،
لكنها ليست قصة طويلة. كان هذا التعريف واردًا في النصف الأول من القرن العشرين،
قبل أن يتم التقعيد ( وضع قواعد) للرواية. فقد كانت الرواية توصف بأنها قصة طويلة، والمسرحية تُنعت على أنها رواية!.
قد تحمل القصة ملامح الرواية إذا كانت تضم حشدًا
من الشخوص، أو تتناول فترات زمنية طويلة في حياة الشخوص، أو تمعن في وصف المكان،
أو إذا كان حجمها يمتد إلى بضعة
آلاف من الكلمات. لكننا نصفُها كما هي
بأنها قصة ذات سمات روائية. يوسف إدريس
مثلًا كتب قصصًا من هذا النوع، وكُتبت قصص أميركية حديثة بعد العام 2000 تحمل هذه السمات.
وهناك أيضا الرواية
القصيرة ( نوفيلا) وهذه تجمع بين سمات
فنّي القصة والرواية. بيد أن
القارىء في النهاية ( لا الناقد الصارم أو الأكاديمي المختص) يبحث عما يثير المتعة
الفنية لديه، بصرف النظر عن التسميات والتصنيفات. ولا أحد يلومه.
كلّ بحث عن عرى وثقى بين
القصة والرواية عبث منسلّ من غياب الرؤية بكلاهما كنمطين سرديين، إذ لكلّ منهما
خصوصيته الفارقة عن الآخر
الدكتورة فاطمة نصير/ ناقدة
وأكاديمية من الجزائر
تلتقي القصة والرواية في نقطة مهمّة وهي أنّ كلاهما
تنطويان تحت قبّة السرديات، أمّا خارج هذا الحيّز فكلّ بحث عن عرى وثقى بين القصة
والرواية عبث منسلّ من غياب الرؤية بكلاهما كنمطين سرديين، إذ لكلّ منهما خصوصيته
الفارقة عن الآخر، وعليه لا يمكن اعتبار "القصّة القصيرة" رواية قصيرة، ولن
تكون "الرواية" بأيّ حال من الأحوال قصة طويلة، وذلك لعدّة اعتبارات لا
يسهل حصرها، أهمّ تلك الاعتبارات، البناء اللاّمتماثل بين النّص القصصي والنّص
والروائي، وكذا التحوّلات المتسارعة في صياغة النصوص الروائية من جهة، والنصوص
القصصية من جهة أخرى، والتي صارت أكثر انحرافًا عن المعيارية، بل وأكثر تمرّدًا عن
التقيّد بقوالب مشتركة في إخراج النصوص، وتلك إحدى آثار الخلخلة الحداثوية في
السرديات بشكل عام. فإن كانت الروايات الكلاسيكية تنهض على مكوّنات مشتركة، والقصص
القصيرة يستقيم عودها على شبه مخطط موحّد البنى والمكوّنات، وتظلّ التغييرات تطال
فقط المضامين بمستويات متفاوتة، ولطالما اشتركت الروايات الكلاسيكية حتى في
النهايات، ذلك ليس عيبًا أو قدحًا في النّصوص الكلاسيكية، وإنّما إشارة وتوضيحًا
بأنّ ما يحدث على مستوى حقل السرديات(الرواية القصة القصيرة)، تحوّلات مزّقت
البنيات وفكّكتها، وهدمت الصياغات الجاهزة والقوالب المتفق عليها، وأعلت من شأن
حضور الأسئلة والإشكالات النارية الحارقة في النصوص القصصية والروائية على حدّ
السواء.
إن الرواية يمكن اعتبارها معادلًا موضوعيًا للحياة من
خلال الحركية والتموّجات المتداخلة في نصّ واحد، كما أن فضاء الصفحات في الرواية
يتيح للكاتب أن يفرّع الموضوعات والأسئلة من بعضها البعض، بينما القصّة القصيرة
محدودة الصفحات والكلمات، يتمّ طرحها بشكل مكثّف مع عدم وجود مساحة لتفريع
الموضوعات من بعضها البعض.
نشرت في صحيفة القدس العربي 16-10/أكتوبر/2017
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق