الأديب ابن بيئته، ويشكل محيطه ميدانًا خصبًا له، يمتح منه حكايات وأفكارًا
وصورًا ومشاهد لا تنضب. وبالضرورة تنعكس مهنة الأديب الملتزم على إبداعه، وإبداعه
على مهنته، فيحدث التأثر والتأثير في الاتجاهين.
حنان بيروتي كاتبة قصة بالدرجة الأولى، تتميز بالقدرة الفائقة على الإثارة
والإدهاش من خلال قدرتها الفذة على التقاط اللحظات الفارقة، والمشاهد المؤثرة،
والمشاعر المرهفة، وعذابات وآلام الناس حولها، لكأنها تكتب نصوصها من خلال عدسة
كاميرا سينمائية فائقة الحساسية.
حنان بيروتي أديبة مخلصة لمهنتها مهنة التعليم، حيث صورت بعض المواقف
والمشاهد بإبداع لافت، ولغة بليغة مكثفة على الرغم من سلاستها وبساطتها. وهنا يكمن
سر الإبداع الذي تبوأت منه البيروتي مكانًا عاليًا، أردنيًا وعربيًا، ويؤكد ذلك
فوزها بمجموعة معتبرة من الجوائز الإبداعية داخل الأردن وخارجه.
ومن خلال مجموعاتها: ليل آخر، فرح مشروخ، تفاصيل صغيرة، تبرز مجموعة من
المشاهد المدرسية المعبرة والمؤثرة، منها:
تصور قصة (عتمة) حياة
أسرة فقيرة ، حيث تكون العتمة ستارًا تحجب العيوب ومظاهر الفقر والعوز، وفرصة لترعرع
الأحلام والأمل بقادم أجمل. ترتق الأم جوارب ابنها، وفجأة تنقطع الكهرباء، فأخذت "تحدق بالعتمة المفاجئة، يرتسم
أمامها وجهه المحتقن ودمعته
الحارقة وهو يخبرها كيف أجبرهم أستاذ الرياضة على خلع الأحذية ليعلمهم مهارة جديدة أسماها "الوثب العالي" وكيف أضطر
لخلعه وانكشف جوربه المثقوب، وتناهتْ لمسامعه
تعليقات من زملائه مبطنة بالسخرية تلتها أخرى جارحة
وصريحة في استراحة الخمسة دقائق بعد انتهاء الحصة". وفي العتمة "تخيلت
نفسها في السوق تشتري له زيًا
وجواربَ جديدة، تخيلته يقفز في الهواء ببدلة رياضية مناسبة مجتازًا العارضة قبل أن يهبط على الفرشة السميكة برشاقة، ويصفق له الجميع! وجدتْ نفسها تبتسم بفرح صافٍ حتى دمعت، فجأة انبعث النور، تبددت الصور وتلاشت تلك الفرحة، ابتلعتْ دموعها وتابعت رتق الجورب علّه يجده جاهزًا صبيحة الغد!"
في قصة (تـلـك اللـيلـة!)، فتاة تستذكر في ليلة باردة ذكرى والدها المتوفى، حين كانت طالبة
تسهر للدراسة من أجل امتحان التوجيهي في غرفة مستقلة مخصصة لمن ابتلى بالتوجيهي،
وكيف أنَّ والدها أوصاها ألا تنام والكانون مشتعل، ولكنها من فرط البرد أشعلت
الكانون بعد أن ملأته بالفحم، ثم غلبها النوم، فلم تستيقظ إلا وطرقات عنيفة على
الباب، وبسبب الدخان لم تستطع أن فتح الباب المغلق، ولكنها نجحت بصعوبة بالغة أن
توصل المفتاح إلى والدها عبر حافة النافذة قبل أن تذهب في غيبوبة.
ما لم تفهمه الفتاة على الرغم من "مرور سنوات على تلك
الحادثة ووفاة والدها الذي تتكثف ذكراه كل سنة مع اشتداد البرد، رواية والدها قبل
موته بفترة وجيزة عن تلك الحادثة، أخبرها أنّه كان في وقتٍ متأخر من تلك الليلة
مستغرقًا في نومه كالعادة رآها تزوره في الحلم وهي تصرخ وتستغيث "...يابا
ياابا !أنا أموت... بدي أموت...!
وكيف أفاق متوجسًا
مذعورًا وسارع لتفقّدها...!"
تواجه المعلمة في قصة (خطى عارية) موقفًا صعبًا بين واجبها كمعلمة،
وأولوياتها كإنسانة تشارك الآخرين مشاعرهم وعذاباتهم، وتحافظ على ما تبقى لهم من
كرامة، حيث تسير المعلمة "بتثاقل لغرفة المرشدة، ثمة أم جاءت تسأل عن أحوال
ابنتها في المدرسة" ... "قبل أن أصل بخطوات قليلة اعترضت طريقي، وقفت
أمامي بوجه طفولي ملطخ بخوف قبل أن تهمس بنبرة تتقطر رجاء: يا مس! يا مس ما
تحكيلها عني إشي!"
"انتشلتني من أفكاري بسرعة وهي تهمس بانكسار: يا مس، هذه ليست أمي! إنها
زوجة أبي! "
"تهتز بشرة وجهها بانفعال، وتتجمع الدموع في عينيها، لا أعرف ما أفعل؟
أحدق بها حائرة، تبتلع غصتها وتفسح لي الطريق منسحبة بخطى من أجبر على السير عاريًا
تحت المطر...!"
تتناول قصة (قُبلة) سلوكيات خاطئة لبعض الطالبات، من خلال التحايل على الرقيب الأسري والمدرسي،
والانسياق وراء أوهام الحب، والانخداع بالكلام المعسول والوعود البراقة.
تصور قصة (رائحة) معاناة معلمة أم، حيث يتصارع داخلها أمران: خوفها من
مديرة المدرسة، وتقديسها للدوام على حساب المشاعر الإنسانية، وواجبها كأم وضرورة
أن تضحي بالدوام من أجل رعاية ابنها المريض الذي تودعه الحضانة يوميًا، ومع كل ذلك
لم تسلم من نظرات الجيران المتبرمة التي لا ترحم ولا تقدر. فهي مضطرة لإيقاظ ابنها
مبكرًا على الرغم من مرضه، من أجل أن تلتحق بالدوام، في أثناء نزول الدرج استفرغ
الطفل، "فشعرت بالذنب وبرغبتها بالعودة الى البيت والعناية به، لكن صورة المديرة
ارتسمتْ أمامها وهي تمسك بدفتر التوقيع وتتوعّد وتحذّر من التأخير ولو لدقيقة،
فالدّقيقة كفيلة بحدوث انفجار نووي! وكيف تتكهرب من سيرة الأولاد، المرض، الحرارة،
التّطعيم والبرد... تعتبرها
حُججًا واهية وبايخة للتهرُّب من الدوام، هكذا تراها مع أنّها لم تنجب ولم تعرف
معنى رعاية الأولاد، أفاقتْ من شرودها على بكاء ابنها المجروح، مسحتْ فمَه وأنفَه
بمنديل وحاولت أن تزيل الآثار عن الدرج بآخر، الوقت ضّيق وعيون المديرة ضيّقة أيضًا،
تشبه فوهة بندقية مصوّبة نحوها، لكن فوهات عديدة وجدتها مسلّطة عليها بعد عودتها
مهدودة من العمل، صوَّبها نحوها سكانُ العمارةِ مُتبرّمين من الآثار المتروكة على
الدرج، لم يدر أيٌّ منهم أنها تستطيع الآن أن تشطفه كلّه...
بدموعها!"
في قصة (ارتياح) صورة مؤثرة غير مألوفة، حيث تضحي طالبة فقيرة من أجل حفظ
كرامة أمها، وتجنبًا لانكسارها أمام مديرة المدرسة، فهي لا تستطيع النظر جيدًا
لضياع نظارتها الطبية في المدرسة، تخبر أمها، وهي تنشر الغسيل، فتسألها بعد أن
تترك ما بيدها:
"- كيف ضاعت؟! كلفتنا 18 دينارًا!!
أقول لها محاولة التخفيف عنها وامتصاص بعض غضبها..
«بعد الفرصة بربع ساعة.. المعلمة صرخت فجأة: يللا بسرعة يا بنات! ترويحة..
ترويحة في اجتماع!!
كانت في جيب المريول ووسط التدافع وازدحام الطالبات على الدرج.. تحسست جيبي
فلم أجدها!!».
.. تدافعت الصور إلى مخيلتها بعد استدعائها للإدارة, ترى أمها تلوذ بغرفة
المديرة، تعرف: ستسأل عن المفقودات تتبعها بصمت، تسمع صوتها يتدافع محملا بأطنان
من الرجاء..
«من أين لنا بنظارة جديدة؟ كلفتنا عشرين أو خمسة وعشرين دينارًا.. والبنت
نظرها ضعيف!!».
تنزل عينيها وقد انطبعت فيهما صورة أمها التي تقف بانكسار، تحدس أن أمها
كانت تنوي طلب تخفيض الرسوم المدرسية وإذا بها بمصيبة ضياع النظارة!!
تفتح المديرة أحد أدراج مكتبها، تتناول عددًا من النظارات مختلفة الأشكال
والأحجام والقياسات تكومها على الطاولة وتومئ لها بالاقتراب، تمد يدها تختار
النظارة الأقرب لشكل نظارتها المفقودة, تثبتها على وجهها، تهمس بتلعثم خجول: «لا أرى
جيدا!!».
لكنها تستشعر انتظار أمها التي تقف جانبها تتقطر من أنفاسها اللهفة، تنتشل
نفسها من الضيق بتسرع.. وتهتف فجأة: «نعم! إنها هي! هي!».
تنزلها عن عينيها اللتين تنزل منهما الدموع، لكن المديرة تبادرها بصيغة
آمرة: «أبقها على عينيك دائمًا؟».
تعيدها لعينيها، عيناها تؤلمانها كأن أصابع غير مرئية تضغط عليهما، بصعوبة
تميز مخرج غرفة الإدارة.. تتعثر بكرسي، لكنها تسارع للإمساك بالنظارة تتشبث بها
وهي تستشعر أنفاس أمها توحي بارتياح!"
تؤكد قصة (أجنحة!) على الصراع المعتاد بين المعلمات ومديراتهن، فبعض مديرات المدارس
ينسين أنهن كن معلمات من قبل، وأنَّ المعلمة إنسانة وأم عليها مسؤوليات كثيرة في
البيت والمدرسة، وأنَّ المعاملة الإنسانية وتقدير الظروف هي العامل الحاسم في
إحداث التوازن والقيام بجميع الواجبات دون تقصير في أي منها. في هذه القصة، فكرت المعلمة أن تجدول أعمالها، ولكنها
وسط معمعة واجباتها البيتية التي لا تنتهي، وأطفالها الذين لا تتوقف طلباتهم
وشكواهم، " تذكرت وجه المديرة ولسانها الذي يخزها بالتأنيب، هي لا تعرف عن
الأطفال غير أجساد تتناثر، يأس هادئ يتسلل لروحها، إحساسها بالعجز يشبه مدًا كاسحًا
يتسلل ببطء غادر! أمسكت بالورقة ودعكتها بين أصابعها بكل قوتها.. ودموعها تتقطر
وتنسدل على أطراف وجهها. لحظة سقطت الورقة على الأرض استحالت حمامة بيضاء.. مكسورة
الأجنحة!!"
هذه المشاهد المستلة
من ثلاث مجموعات قصصية، تشير بوضوح إلى تداخل الأديبة مع
المعلمة، مما ينعكس بالتأكيد التزامًا بالمهنة، واهتمامًا بطالباتها وتفاصيل
حياتهن ومشاكلهن، ومراعاة لظروفهن، وتقديرًا لمشاعرهن، وتعاطفًا مع آلامهن
وأشواقهن، بالإضافة إلى تفهمها للمجتمع من حولها وخاصة أولياء الأمور وأمهات
الطالبات، وزميلاتها المعلمات وما يكابدنه من مشاق وصعوبات من أجل التوفيق بين
العمل والبيت. وكل ذلك يتطلب شخصية إنسانية متميزة، ذات حساسية عالية، ووعي عميق،
وانشغال بالهم الإنساني المرتبط بالإنسان صاحب الرؤية والرسالة، جسدتها حنان
البيروتي بإبداع وامتياز في جميع ما تكتب، وخاصة في مجموعاتها المشار إليها.
نشرت في مجلة أفكار العدد العدد 345 - 2017
http://www.culture.gov.jo/sites/default/files/page75_0.pdf