قصة قصيرة
موسى إبراهيم أبو رياش
خطواته المتعبة تقوده للوراء، يكاد لا يستبين طريقه، تنوء أكتافه بكل أثقال الدنيا، محبط حتى النخاع، فقد كل أمل في تحسين أوضاعه، يعيش على مبلغ بائس مقابل عمل بغيض. حمد الله أنه وحيد ليس مسؤولاً عن إعالة أحد، لا زوجة ولا ولد.
التقطت أذناه صوت نهنهة طفلة تبكي بصوت خفيض، انتبهت حواسه، التفت حوله، فوقعت عيناه على طفلة صغيرة تفترش عتبة أحد المنازل، مشى نحوها بتساءل، أصابه الذهول من فرط براءتها، وجمالها الطفولي الآسر التي زادته دموعها روعة وفتنة، دموع كاللؤلؤ تزين خديها، وتضفي عليهما بريقاً آخاذاً، وتجعل من الطفلة ملاكاً اتخذ الأرض له مسكناً.
شعر بخفة، انشرح صدره، تبخرت كل أحزانه، فاض قلبه بالأمل، امتلأت جوانجه بالحنان، قرفص قبالتها يتأملها بشغف، سألها بحنان عن سبب بكائها. صمتت ولم تجب، أعاد السؤال، أجابت ببراءة وكلمات متقطعة: أأأررريييد شووكوولااتة كالأأأوولااااد ... ما معععي مصاااررري. سألها عن أمها وأبيها. أخبرته أنها يتيمة، وأن أمها ذهبت تبحث عن عمل. انهضها من يدها برفق، وترك حبات اللؤلؤ كما هي، يتأملها بفرح طاغٍ، وسعادة غامرة. قادها إلى أقرب بقالة، أخرج كل ما معه من دريهمات، واشترى لها كل ما تحب، وأرخى لها حبل الدلال، ثم أوصلها إلى بيتها وهو يحدثها بخشوع، ولولا خوفه من العيون المتلصصة، والأسئلة التي تتراكم على الشفاه، لمكث برفقتها إلى أن تعود أمها، ولكنه آثر أن ينسحب؛ ليحافظ على سعادته وكنزه الجميل، وأن لا يضيع بسبب سوء فهم، أو تأويل ظالم، أو تفسير أعمى، ثم أكمل طريقه إلى بيته، وهو يشعر بخفة وقدرة على المسير بل الطيران دون توقف.
وصل إلى بيته بسرعة، دخله بسعادة، تخفف من ملابسه وارتمى على فراشه باسترخاء، أخذ يتذكر لحظاته الجميلة مع الطفلة الباكية، وشعر لأول مرة منذ زمن طويل أن في الحياة أشياء جميلة، تستحق أن نحيا من أجلها، وأن لمسات الجمال موجودة بالرغم من سيطرة مساحات السواد وغلبتها!
أصبح ينطلق إلى عمله بهمة ونشاط، بذل جهداً مضاعفاً، أتقن عمله، لاحظ رئيسه مدى جديته وتغيره، رفع أجره ونقله إلى عمل أفضل، تحسنت أحواله، شعر بمذاق طيب، وثق صلاته ببعض زملاء العمل، وتبادل معهم الزيارات، وخرج مع بعضهم في سهرات خفيفة، ورحلات قصيرة. تبدلت أحواله، تفتحت في قلبه مسامات جديدة، شعر بقلبه يخفق، أخذ يمشي بثقة، يأكل بتلذذ، ينام بمتعة، يحلم كالأطفال.
أخذ يحلم أن تكون له حياة مختلفة، يفكر بالزواج، يفتح بيتاً أرحب وأوسع، اشتاق للأطفال، شعر بلهفة لأبوة تلوح في الأفق، صار يخطط لمستقبله، يقلب أفكاره ومخططاته ومشاريعه، يستبعد هذا ويعيد التفكير في ذاك، حتى استقرت في ذهنه ومخيلته صورة جميلة لما يريد، عاش معها وبها ليالي طويلة، يشعر بالسعادة كلما استحضرها، كأنه ملك الدنيا بأسرها، حتى يتخيل أحياناً أنه يعيش واقعاً لا حلماً وأماني ما زالت معلقة في رحم الغيب.
استلم منصباً يحسده عليه كثيرون، وتحسنت أحواله المادية، وأصبحت أحلامه قاب قوسين أو أدنى من أن تترجم على أرض الواقع، فكل الظروف مهيأة، ومعظم العقبات إلى زوال.
في طريق عودته بعد يوم عمل، وكان ذلك في أواخر شهر أيلول، أمطرت السماء فجأة، في استهلال موسم مطري جديد، بزغ الأطفال من كل ناحية، وخرجوا من كل بيت، وتجمعوا كرف حمام يغنون فرحين بحبات المطر:
شتي وزيدي بيتنا حديدي
عمنا عبد الله
رزقنا على الله
أخذوا يركضون في الشارع يستمتعون بمعانقة المطر لأجسادهم البريئة، وبعضهم فتح فاه لتسقط بها حبات المطر البكر، وفاح من تراب الأرض شذى عناقها الولهان مع حبات المطر، وتشربت الأرواح سيمفونية لقاء العاشق بالمعشوق، وحلَّ في الأرض سلام، وخرجت من الصدور تنهدات الراحة والأمل، وتعالت أصوات الخلق: "الحمد لله".
شعر بروحه تطير في الأعالي، وقلبه يتفتح تعطشاً للمطر كما الأطفال، وأحس أنه بحاجة أن يغسل أدران جسده بهذا المطر الطاهر الذي يتنزل من السماء بروعة وسلاسة ورفق. خلع جاكيته وربطة عنقه، وخلع حذاءه، واختلط بالأطفال يغني كما يغنون، ويركض كما يركضون، ولم يعبأ بالعيون الساخرة التي استنكرت فعلته متمتمة نابزة لامزة، أدرك أنها جبانة، متمترسة خلف وقارها الكاذب، فهي أعجز أن تحذو حذوه، وتعود إلى براءتها وطهرها وإن للحظات معدودة، وتصر أن تبقى حبيسة زيفها ومظهرها المخادع!!
نشرت في الدستور الثقافي بتاريخ 15-10-2010
http://www.addustour.com/ViewTopic.aspx?ac=\Supplement2\2010\10\Supplement2_issue1099_day15_id273514.htm